وقولوا للناس حسنا
في عام ١٩٧٤ كنت رئيس دائرة في إحدى المؤسسات في مدينة حلب وكنت مولعا بالقراءة والمطالعة..
وفي أحد الأيام دخل مكتبي البواب الذي يفتح باب الإدارة للسيارات القادمة والمغادرة وما أعرف عنه سوى أنه رجل ماجن يتعاطى المخدرات والخمر ومتيم بطيور الزينة ( الحمام ) !!!
رحبت به وطلبت له فنجان قهوة ثم كأس شاي..
فقال لي:ألا تشرب سيجارة ؟
قلت له : أما ترى سيجارة الماربورو بيدي ؟
وكنت آنئذ اقرأ رسالة الغفران للمعري ..
فقال سيجارة ( دبل)..
قلت ماذا تقصد ؟
قال سيجارة مليئة بالمخدرات !!!
قلت هاتها فأعطاني سيجارة من نوع حمراء بعد أن أفرغ قسما من التبغ من داخله وأبدلها بما يريد وشربتها بدافع الإطلاع لأرى مفعول هذه المادة الخطرة على من يتعاطاها ..
وأثناء تلك الزيارة طلب مني أن أتحدث مع مدير المؤسسة ليتراجع عن منع تواجد طيور الحمام التي يضعها ذلك البواب في حديقة الدائرة حيث كان يضع زوجين من نوع ( البايملي ) الأسود ..
وأردف قائلا إن جعلته يوافق على إعادتهم سأعطيك زوجا من فراخهما **وقيمتهما ستة آلاف ليرة سوريا تعادل راتب سنتين في تلك الفترة.. **وإذارفض سأقدم استقالتي لأنني لا أستطيع المكوث لساعات في مكان دون رؤيتي للطيور ..
وتابع الحديث بقوله أراك تقرأ على الدوام !!! ماذا تقرأ؟
قلت له أنت تهوى الطيور والخمرة والمخدر وأنا أهوى الكتب وقراءتها فقال اعطن كتابا لاقرأه !!
قلت له تكرم سأحضر لك كتبا وهذا الذي أمامي صعب عليك .
وانصرف الرجل وذهبت للمدير ونجحت بفضل الله في إقناعه بإعادة طيور البواب !!
جاءني في اليوم التالي فأخبرته بموافقة المدير على إعادة الطيور فانشرح صدره وأخرج سيجارة حمراء وأضاف لها المخدر وعرضها عليَّ فرفضت وأبلغته بأنني شربتها أمسا للإطلاع على ما أسمع به كثيرا ولا أعرف مذاقه لكنني لا أرغب به فقال سأذهب لأحضر لك زوج الفراخ الذي وعدتك به..
فقلت له :أشكرك ولا آخذه لعدم هوايتي بهم … وغدى كل يوم يزورني في مكتبي وأقدم له القهوة والشاي وبعد أيام عاد وطلب مني الكتب ليقرأ “فأحضرت له كتابين تتناسب مع مستواه ولا زلت أذكر أسميهما ( خالد بن الوليد ) لجنرال باكستاني أسمه أكرم وهو كتاب ترجمة لسيرة خالد رضي الله عنه يتناول حياته منذ الطفولة وحتى الوفاة وقيِّم جدا ويصلح لرسالة الدكتوراة وكتابا إسمه ( محمد الرسول الأعظم ) صلى الله عليه وسلم ويتناول أيضاسيرة الرسول منذ الطفولة وحتى الرحيل ومؤلفه محمد سعيد رمضان : أمين مكتبة الازهر الشريف..
واستمر البواب بالتردد عليَّ لأكثر من سنة وجاءني يوما بخبرني برغبته لأداء فريضة الحج ..
فاستغربت ما قال وسألته كيف ستترك الطيور والخمرة والمخدر ؟
قال : لقد بعت الطيور وأقلعت عن المشروب كله قلت له بارك الله بك ومبروك هداية الله لك !! وفعلا ذهب للحجاز وأدى الفريضة ودعانا بعد عودته لوليمة فذهبت الإدارة كلها وأثناء الجليسة قال :
أتدرون من الذي أنقذني من البلاء الذي كان يَلِمُّ بي ؟
قال البعض من؟
فأشار إليَّ وتابع قائلا : لقد أعجبني لطفه وحلمه وصبره عليًّ وقيامه في كل زيارة بتقديم الضيافة لي مع الترحاب وكأني ضيف يستقبله في منزله.. وأنا زوجتي تهرب مني ولا تنام في فراشي هربا من رائحة المخدر والخمرة !! فانتابني الخجل من الأستاذ وما عدت اتناول المخدر عندما أجلس معه وهو لايدري ويحسبني مستمر في تعاطيه ورغم ذلك لم يضجر مني إطلاقا و أنا في هذا الخجل مع نفسي حتى سمعت هاجسا يقول لي ( استحييت من علي علايا) وأقلعت عن تناول الموبقات ولم تستح من الله .. وكان هذا الهاجس نقطة تحولي الكبير فقررت الإقلاع عما كنت فيه وقررت الذهاب للحج معلنا توبتي لله..
الغريب في هذا الحدث أن المدير خصص غرفة واسعة جعلها مسجدا وفرشها بالسجاد وصرنا نصلي به صلاة الظهر معا .
سبحان الله هذا المدير الذي كان يختصم أجر ساعة من أي عامل إن رآه يصلي بحجة توقفه عن العمل !!
تناول الكلام المدير وقال للحاج وأنا من جعلني أصلي وأخصص مسجدا في الدائرة هو الأستاذ علي علايا .!!!
سبحان الله !!!! ما قلت للبواب يوما امتنع عن تعاطي ما تدمن عليه ولا قلت له بأنه حرام أو يضر بصحتك ولا قلت له لماذا لا تصلي وكل ما قمت به عبارة عن ضيافة وترحاب وعدم الضجر أو التأفف منه ..
وما قلت للمدير يوما لماذا لم تصل أو لماذا تعاقب من يصلي بخصم ساعة من أجره !!
وكل مافي الأمر نجلس معا ساعة معا ونتبادل أحايث منوعة .
#العبرة :
إنك لا تهدي من أحببت …
لكن إذا كانت أخلاقنا راقية بالحلم والثقافة الواسعة في الصبر ..وحسن التعامل ..والإبتسامة بدل الزجر والتأنيب والتكفير إن رأيت منه منكرا ..فإذا لامس منا أعمالا تتوافق مع ما نقول يتأثر بأخلاقنا ..
أما إذا كانت أخلاقنا غير ما نقول فإننا لا نجني سوى الضجر والنفور ممن نخاطب
( ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك )
أ:علي علايا #الشارع_العربي