بين لغة العقل و النقل !!!
بين كلّ آونة وأخرى يطلع علينا منظّرون يخلطون بين الفلسفة وفقه الشريعة الإسلاميّة، فينكرون بعض الأمور في الشريعة وينادون بتطبيق أمور أخرى، ليثيروا اللغط والجدال في موضوعات لا تسمن ولا تغني من جوع.
ومن تلك الأفكار لجوء بعض المتفلسفين الذين يدّعون الانتماء للفلسفة ومدارسها المتعدّدة، إلى إنكارهم للنقل وتمسّكهم بالعقل فقط، رافضين أيّ أمر يأتي عن طريق النقل، ومشكّكين في صحّته ما دام يختلف مع لغة العقل، ولا يتّفق معها.
وللحقّ نقول: النقل هو كلّ علم موجود في كرّاسات وضعها عالم ما أفتى بها أو حلّلها واستنتج وأصدر حكمًا بها. ومنها ما زال ثابتًا صحيحًا إلى هذا اليوم، ومنها ما هو قابل للجرح والنقد والاستبدال بإعمال العقل واستنباط رأي جديد أو حكم آخر.
والعقل الناقد لما هو منقول واجب لتأييد ما هو منقول عن السلف وتثبيته أو نقضه واستبداله بما هو أحسن وأصلح وأكثر دقّة. وفي هذا إعمال لأمر الله الذي أمرنا بقرآنه الذي ورد فيه ست وستّون آيةً تحضّ على إعمال العقل.
فالقياس تعريفًا هو نسبة أمر لأمر أو واقعة لواقعه، لاتّحاد بينهما والتشابه بالشكل والموضوع والعلة، وإعطائهم الحكم نفسه. وهو ما تستخدمه المحاكم الدنيا بما تستقرّ عليه المحاكم العليا، وفي كلّ دول العالم. وهذا لن يكون نقلًا مذمومًا.
والاستحسان هو عملية مفاضلة بين حكمين ورأيين للحكم بواقعة ما واختيار الحكم الأصلح. وعلى هذا، فالقياس والاستحسان هما مصدران من مصادر التشريع الإسلامي، وهو ما يترك الحرّيّة المطلقة للعقل بنقد المنقول وجرحه، ومن ثمّ استبداله أو تعديله أو تثبيته والإقرار بصحّته بما فيه مصلحة الأمّه.
وتقول القاعدة الفقهية: (فحيث مصلحة العباد فَثَمَّ شرع الله).
وهذه عمليّة يجب أن يتصدّى لها عقل منفتح وليس مؤدلجًا بفكر منغلق على نفسه، أو متمسّك بآراء لم تثبت صحّتها، بل هي مناقضة تمامًا للواقع، ففي شريعتنا ما يصلح الآراء والاجتهاد المنقول بعقل ناقد متّقد نيّر ذي معرفة عميقه وقادر على الاستدلال والاستنباط للأحكام منها وفيها، وهذا الأمر لا يختلف مع مدارس الفلسفة الحديثة والقديمة، وما أكثرها.
ذلك أنّ الشريعة الإسلامية، بل الفكر الإسلاميّ عامّة، بكلّ أصوله وفروعه، يشكّل وحدةً منهجيّة متكاملة ومستقلّة كلّ الاستقلال عن الفلسفات العالمية، الخاصّة منها والعامّة.
وإذا كانت هناك بعض التقاطعات، فهذا لا يعني أنّ الفكر الإسلامي يخضع لمبادئ الفلسفة والفكر العالميّ، بل هناك حدود وقيود في التعامل على هذا الأساس. فالفكر الإسلامي له شخصيّته المستقلّة كلّ الاستقلال، والتشابه بينه وبين بعض المناهج الفلسفية العالمية لا يعني خضوعه لها في أيّ حال من الأحوال.
وعليه، فإنّ الأخذ بلغة العقل ضروريّ، والأخذ بلغة النقل لا يقلّ أهمّيّة في بعض المواطن عن لغة العقل، بل هو يعزّزها، ويقدّم وحدةً فكرية متكاملة.
المحامي :ع الناصر نور الدين **الشارع العربي **